إنا على العهد

مقالات مختارة

 وقائع «7 أكتوبر السوري» [1] و[2]
18/12/2024

 وقائع «7 أكتوبر السوري» [1] و[2]

 ابراهيم الأمين- صحيفة "الأخبار"

باغت الحدث السوري غالبية الناس. وتبيّن مع الوقت أن دولاً وحكومات فوجئت أيضاً بما حصل. ويمكن القول إن الفصائل المسلحة التي أطلقت الهجوم في 27 تشرين الثاني الماضي عبّرت لاحقاً عن دهشتها من النتائج الكبيرة التي حققها مقاتلوها على الأرض. ومع ذلك، فإن الاندفاعة الأولى، التي أسقطت حلب وريفها الجنوبي في يد المسلحين خلال أقل من يوم، كان لها التأثير الكبير على كل الخطوات السياسية التي تلت.

في اجتماع الدوحة للأطراف المتفاعلة في اتفاقية (أستانا+)، اضطرّ الحاضرون إلى التعامل مع الوقائع. عندما نوقش اقتراح وقف الحرب، كان الأتراك أول من طلب ونجح في فرض قاعدة على الآخرين، وتحديداً على روسيا وإيران، بأن لا تقوما بأيّ عمل عسكري مباشر لدعم قوات النظام، مقابل أن تلتزم تركيا الأمر نفسه. لكن، كان واضحاً للحاضرين أن معطيات الأرض لم تكن توجب على الأتراك التدخل من خلال إرسال قوات، ولا حتى توفير الإسناد المدفعي أو الجوي في المعارك، بينما العكس هو الصحيح. إذ بمجرد أن أبلغ الروس والإيرانيون بشار الأسد بأنهم لن يكونوا في قلب المعركة، حتى أدرك الرجل أن الخسارة آتية.

وكل محاولاته اللاحقة للملمة الأمور لم تكن لتنفع، فقاعدته القتالية كانت تتّكل بدرجة كبيرة على الدعم المباشر للحليفين الروسي والإيراني. وعندما جرى الحديث عن توجّه مقاتلين من حزب الله الى سوريا، كان الجميع، وفي مقدّمهم حزب الله، يعرف أن هؤلاء سيعملون على حماية بعض مصالح الحزب ومساعدة آلاف السوريين على الهرب خارج المدن المستهدفة. وقالت قيادة المقاتلين، منذ اللحظة الأولى، إنه لا يمكنها القتال نيابة عن أحد، وإن معطياتها تفيد بأن الجيش السوري ليس جاهزاً للقتال. وقد تسبّب كل ذلك في تسريع العملية العسكرية، وصولاً الى ما انتهت إليه.

قد يكون من المفيد الحديث عمّا كان مجمعاً من معطيات حول ما حصل قبل شهور. لكن، يمكن الجزم بأن الفصائل المسلحة كانت في طور الإعداد لعملية عسكرية قالت إنها تستهدف استعادة مساحات انتزعها النظام خلافاً لاتفاقية أستانا. وفي منتصف حزيران الماضي، تحدث نافذون في الفصائل المسلحة عن لحظة تقاطع تقترب، حيث تريد تركيا القيام بعملية عسكرية كبيرة ضد الأكراد لمنعهم من تثبيت أماكن تواجدهم استعداداً لخطوات انفصالية أكبر، وأعربت الفصائل عن استعدادها للمساعدة في إنجاز هذه المهمة، مقابل دعم أنقرة لخطتها بشأن حلب. ومع اشتداد العدوان الإسرائيلي على لبنان وغزة، تحدث الأتراك عن خشيتهم من تطورات تتيح لإسرائيل النفاذ بصورة أكبر داخل الأراضي السورية. ووصل الأمر بمسؤول تركي إلى القول: «نحن واثقون من عجز إسرائيل عن الوصول الى بيروت، لكننا واثقون من سهولة سير إسرائيل باتجاه دمشق».

في تلك الفترة، جرى تبادل للرسائل، أتيح للبعض الاطلاع عليها، تضمّنت إشارات واضحة الى أن تركيا كانت تتحدث عن مشهد ستستغله إسرائيل بدعم أميركي، من أجل فرض تقاسم نفوذ واسع في سوريا، فتتحكم إسرائيل بمناطق في درعا والقنيطرة والسويداء، مقابل ترك الأكراد يقيمون دولتهم حيث هم في الشرق وحول الفرات، فيما يترك للدولة السورية ما بقي من محافظات، وتتم محاصرة تركيا في إدلب وشمال غرب حلب.

لم يكن الأتراك ليوافقوا على خطوة من هذا النوع. وفي بعض رسائل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الى الوسطاء لترتيب مصالحة عاجلة مع الأسد، كان يقول صراحة إنه لا يحبّ الأسد، وإنه جرّب إسقاطه، لكنه يجد أن هناك مصلحة له في الاتفاق معه الآن. وقد أرفق عرضه السياسي بمغريات ذات طابع اقتصادي، مثل تحويل «حلب الكبرى» الى منطقة صناعية حرة وواسعة، تعمل تركيا من خلالها على كسر الحصار والعقوبات المفروضة على سوريا. لكن الأتراك كانوا يطلبون، في المقابل، تعهداً من الأسد بالشروع في تغييرات سياسية تسمح لقوى المعارضة الأساسية بالحضور في قلب الدولة السورية.

مع الوقت، كان الأسد يتشدد أكثر في رفض العرض التركي. وكانت حجته الرئيسية في أن على تركيا أن تعلن جدولاً زمنياً لسحب قواتها من الأراضي السورية. وربما كان كثيرون من حلفائه لا يصدقون إردوغان، لكن الأكيد أن الأسد كان يعمل على مدار عامين مع السعودية والإمارات ومصر على استراتيجية اعتقد أنها تجنّبه الاتفاق الاضطراري مع أنقرة، وتسمح له بتنظيم عملية خروج غير متسرّعة من المحور الذي تقوده إيران، مقابل توفير شبكة أمان عربية ودولية للنظام. وبدا أن الأسد صار أكثر إيماناً بأن أبو ظبي كفيلة بمعالجة مشكلته مع الأميركيين ومع بعض الأوروبيين، كما سمع الكثير عن مغريات اقتصادية إذا وافق على استراتيجية الخروج من التحالف مع قوى المقاومة. ويقول أحد العاملين مع الأسد، ممّن بقوا معه حتى الساعات الأخيرة قبل مغادرته دمشق، إن الرجل كان لا يزال يأمل بحصول أمر كبير لوقف هجوم الفصائل المسلحة. وكان يعتقد أن «المجتمع العربي والدولي» يفضّل أن يبقى هو في سدة الحكم، على أن يتولى إسلاميون إدارة سوريا.

في المقابل، كان قادة الفصائل المسلحة يتصرفون بداية على أساس أن الهجوم المباغت يسمح بحسم معركة حلب سريعاً والتوجّه الى أطراف حماة الشمالية، حيث توقعوا أن تقع المعركة الكبرى، علماً أنه نُقل عن قادة في المعارضة، في أيلول الماضي، قولهم إنهم سيقومون بـ«7 أكتوبر سوري»، وهو ما عكسته التحضيرات على الأرض، فيما بذل الأتراك جهوداً كبيرة لمنع أي احتكاك أو تباين في الخطوات العملانية بين قوات «هيئة تحرير الشام» وقوات «الجيش الوطني»، فيما كان الجميع يخشون إقدام فصائل مسلحة في جنوب سوريا على خطوات «تخرّب المشروع»، وخصوصاً فصائل الجنوب التي تعمل تحت إمرة الأردن بتمويل إماراتي وسعودي.

بعد الوصول الى حماة، تحدث المعارضون عن نجاح المرحلة الأولى من العملية العسكرية، وأنه صار بالإمكان جرّ الأسد الى المفاوضات التي رفضها سابقاً. وفي هذه النقطة، كانت الفصائل تؤكد لتركيا التزامها «اتفاق التصعيد من أجل الاتفاق». لكن المعطيات الميدانية جعلت المعارضين أنفسهم يبادرون الى خطوات كبيرة تطلّبت تعديلات في خططهم العسكرية. فهم أصلاً لا يملكون الحشود العسكرية الكافية للسيطرة على كل سوريا، وكانت المجموعات القتالية الأساسية قد توجّهت للسيطرة على مناطق حلب والتثبيت فيها. لكن الانهيار المفاجئ لقوات النظام اضطرّهم الى نقل هذه القوات تباعاً نحو الجنوب. وعندما سقطت حمص، كانت حلب، على سبيل المثال، شبه خالية من الحشود العسكرية.

خلال ذلك، تحول الموقف التركي من الرعاية الى الإدارة المباشرة. إذ إن أنقرة نفسها لم تكن تتوقع انهيار جيش الأسد بهذه الطريقة. وبينما كانت المخابرات التركية تراقب روسيا وإيران تجمعان أغراضهما للابتعاد عن مراكز الاشتباكات، كانت جهات استخباراتية تعمل من دون توقف على حثّ ضباط النظام على إلقاء السلاح والنجاة بأنفسهم. وقُدّمت لبعضهم تسهيلات للانتقال مع عائلاتهم الى أماكن يرونها هم آمنة، سواء داخل سوريا أو خارجها. ولم تحصل عمليات تعقّب لعمليات فرار واسعة جرت في بعض المناطق. فيما دخلت «جهات مجهولة» على الخط، للوصول سريعاً الى بعض المقارّ العسكرية والأمنية من أجل جمع أوراق ووثائق.

في هذه الأثناء، كانت أنقرة تعدّل سريعاً في خططها، لتنخرط كلياً في إدارة المشهد. وهو ما دفع وزير الخارجية حقان فيدان إلى خلع بذلته الدبلوماسية لبعض الوقت، وعاد للتصرف كمدير للاستخبارات التركية، وجلس الى جانبه المدير الحالي إبراهيم قالن. وكان سهلاً عليه إدارة التواصل الأمني والسياسي والدبلوماسي، وخصوصاً أنه يملك نفوذاً شخصياً هائلاً على معظم قيادات المعارضة السورية الموجودة في تركيا، وعلى معرفة مباشرة بعدد غير قليل من القيادات الميدانية، ويؤكد نظراء فيدان في الإقليم أنه أشرف شخصياً على عملية التحول التي مرّ بها قائد هيئة تحرير الشام، ونقله من مرحلة أبو محمد الجولاني الى مرحلة أحمد الشرع. ويضيف هؤلاء: «كان فيدان مهتماً طوال الوقت بألّا يترك الشرع لحيته تطول مجدداً». وتمّ التخطيط بعناية لسلوك الفصائل المسلحة على الأرض، بالتنسيق الكامل مع الجانب التركي، علماً أن بين قوى المعارضة السورية من كان يقول صراحة إن السيطرة على كل سوريا لن تتمّ من خلال حرب دموية شاملة، وإن تجنب حمامات الدم يتطلّب تسويات ولو كان ثقلها كبيراً على بعض المعارضين.

في النتيجة، حصل ما حصل، لكن فكرة أن تكون مستعداً لقتال نظام أو حكم من أجل إجباره على التنازل شيء، وأن تجد نفسك فجأة أمام استحقاق إدارة البلاد بمفردك شيء آخر. وهو ما تجلّى في الارتباك الذي ساد الساعات الأولى بعد رحيل الأسد عن دمشق. لأن أولويات القوات الآتية من الشمال كانت منع فصائل الجنوب من السيطرة على دمشق أولاً، وطردها من العاصمة السورية الى ما بعد ريفها الجنوبي ثانياً. وهو ما حصل على مراحل، علماً أن المعارضين من أهل العاصمة وأريافها ممّن توجّهوا سابقاً الى إدلب، كانوا قد خضعوا لعمليات تأديب مكثفة من جانب «هيئة تحرير الشام»، قبل أن يتمّ حشرهم ضمن قواتها. وقد منع هؤلاء طوال الوقت من التقاط الأنفاس لإعادة تشكيل كيانات مستقلة، وبدا ذلك بعدما نجحت قوات الشرع في السيطرة شبه التامة على العاصمة السورية وعلى جميع المرافق فيها. ومع ذلك، فإن التحدي الضاغط جاء من باب من يتولى إدارة الدولة في هذه الفترة. وهو ما كان ولا يزال محل نقاش، لا يبدو أنه يقتصر على قوى المعارضة التي وصلت الى الحكم، بل إن الدول القريبة والبعيدة تجد نفسها صاحبة رأي فيه.

سوريا اليوم لا تزال في أيامها الانتقالية وليست في مرحلتها الانتقالية، وستمرّ أسابيع إضافية قبل الوصول الى تفاهم بين القوى التي تشكل قاعدة الحكم الجديد، على إطار المرحلة الانتقالية، وخصوصاً أن خصوم الشرع يخشون سيطرته على كل شيء، من دون أن يكونوا قادرين على حشد الناس خلفهم، بينما لم يكن هناك أصلاً أيّ نوع من التنسيق بين المعارضين المنتشرين في عواصم العالم، والذين لم يعودوا جميعاً بعد الى سوريا، فيما الناس في الشارع يركضون وفق غريزتهم للالتحاق بالرجل الأقوى على الأرض.

وقائع 7 أكتوبر السوري [2]: إسرائيل المتورطة وإيران المخدوعة وروسيا الضعيفة

قبل اندلاع المواجهة الشاملة بين حزب الله والعدوّ في لبنان، نُشرت معلومات كثيرة (من بينها ما نشرته «الأخبار») حول خطط محتملة للعدوّ لتوسيع دائرة الحرب. وكان من بين الاحتمالات القوية، خروج العدوّ من الجولان باتجاه مناطق في القنيطرة، والسير على طول الحدود الشرقية للبنان، ليس بهدف منع أيّ أعمال عسكرية من منطقة الجولان ضد العدوّ فحسب، وإنما أيضاً لقطع الطريق بين البقاع والجنوب اللبناني.

حصلت تطورات كثيرة أثناء المواجهة حالت دون إقدام العدوّ على هذه الخطوة. لكن، ما إن بدأ وصول الأخبار عن انهيارات في صفوف قوات النظام السوري السابق، حتى باشر العدوّ تنفيذ خطّته نفسها. وفي وقت كانت فيه الفصائل المسلحة تستولي على المدن، واحدة تلو أخرى، كان العدوّ يبدأ برنامجه العملي، حتى إذا ما أُعلن عن سقوط دمشق، كانت قوات الاحتلال تتقدّم عميقاً، موسّعة انتشارها العسكري المباشر وتغطيتها النارية لكل المنطقة القريبة من حدود لبنان الشرقية في الجزء الجنوبي من الحدود مع سوريا. وترافق ذلك مع أوسع حملة جوية قامت بها طائرات العدوّ ضدّ كل ما تعتبره عنصر قوة في الجيش السوري، ونفّذت عمليات إنزال لقواتها في أكثر من منطقة، للوصول الى مواقع ومنشآت داخل الجبال، إضافة الى عمليات أمنية لا يزال الحديث عنها ممنوعاً حتى الآن.

عملياً، كانت إسرائيل من الأطراف الأكثر استعداداً للحدث السوري، وسيكون من السذاجة الاعتقاد بأنها كانت بعيدة عما يجري. وبعيداً عن الاتهامات أو المعطيات حول علاقة العدوّ بما جرى في سوريا، فإن الحصيلة العملانية تمثّلت في أن إسرائيل حقّقت أبرز أهدافها في الإقليم: تدمير قدرات الجيش السوري، والحصول في الوقت نفسه على تعهد علني من القيادة الجديدة بأن سوريا لن تكون مصدر عمليات ضدها. وهو تعهّد جاء عقب اجتماع لم يُعرف سبب الاستعجال في عقده، بين قيادة هيئة تحرير الشام وقادة الفصائل الفلسطينية في دمشق، أُبلغ هؤلاء خلاله قرار حلّ تشكيلاتهم العسكرية ودعوتهم الى تسليم السلاح وإقفال المعسكرات في أسرع وقت.

كثيرون حاولوا الهروب من الاستحقاق الإسرائيلي في سوريا. أنصار المعارضة التي استولت على الحكم سارعوا الى القول إن إسرائيل عمدت الى عملياتها البرية والجوية لمنع وقوع أسلحة الجيش النوعية في أيدي هذه المجموعات خشية أن تستخدمها في وقت لاحق ضدّها. أما خصوم هذه الفصائل فقالوا إن سقوط النظام السوري أنهى عملية فعالية الحصانة التي كانت روسيا قد وفّرتها للجيش السوري سابقاً، وصار بمقدور إسرائيل التصرّف بحرية أكبر في سوريا، علماً أن العدوّ كان قد بدأ، منذ منتصف عام 2012، حملات مفتوحة ضد مراكز عسكرية ومصانع وقدرات عسكرية نوعية بحجّة أنها تخصّ إيران أو في طريقها الى حزب الله. وسيكون من الصعب توقّع وجود توافق على تفسير ما قامت به إسرائيل من الجانبين. لكنّ الأكيد أن مشكلة إسرائيل في سوريا كانت أكبر قبل سقوط الأسد، وأنها تجد نفسها اليوم أكثر قدرة على العمل والتفاعل. وتكفي الإشارة الى أن الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، التي واكبت العمليات البرية، كانت حاسمة في أن القوات المتقدمة لن تواجَه بأيّ نوع من المقاومة المسلحة. حتى إن جنود العدوّ كانوا أقلّ فظاظة عندما دخلوا الى منازل سوريين في تلك المنطقة، وطالبوهم بالخروج من قراهم لحين انتهاء العمليات العسكرية، وهو أمر استجاب له بعض السوريين الخائفين من بطش العدوّ، بينما رفضه آخرون لا يزالون في منازلهم.

في المحصلة، لا نعرف كيف نقيس الأمر من جانب إسرائيل حيال ما حصل في دمشق. صحيح أن العدوّ لا يمكنه الوثوق بأحد في الجانب العربي، وأن كل الضمانات التي قد يقدّمها حكام دمشق الجدد، أو رعاتهم في تركيا وقطر ودول أخرى، لن تقنع إسرائيل بعدم الذهاب بعيداً في جرائمها ضد السوريين. لكن الصحيح أيضاً أن العدوّ الذي يخشى سوريا، بمعزل عن هوية حاكمها، يتصرّف على أساس أنه حقق سلسلة انتصارات دفعة واحدة، من سقوط نظام الأسد، الذي كان حليفاً عملانياً للمقاومة في لبنان وفلسطين، الى إقفال الساحة السورية كمعبر مفتوح أمام القدرات العسكرية التي تصل الى المقاومة في لبنان، وكمعسكر لتدريب فصائل المقاومة الفلسطينية، أو حتى موطئ قدم لقوى مقاومة من بلدان أخرى. كما حصل، بصورة رسمية، على تعهّد من الحكم الجديد بأن الصراع مع إسرائيل ومطلب استعادة الجولان المحتل لا يمثّلان أولوية لهذا الحكم الذي سيكون منشغلاً ببناء سلطته الجديدة.

لكن مشكلة إسرائيل لا تقف عند هذا الحدّ، إذ إنها لا تريد بقاء سوريا موحدة، وتدعم علناً المشروع الانفصالي للأكراد في الشمال السوري، وتبني روابط سياسية واجتماعية، وليس أمنية فقط، مع قيادات - وليس مع مخبرين - من سكان الجنوب السوري، وخصوصاً في منطقة السويداء، مستغلة العنصر البشري لدروز فلسطين من أجل حثّ دروز سوريا على التعاون، وصولاً الى تقديم مغريات لهم بالحصول على دعم لفكرة قيام حكم ذاتي إن أرادوا ذلك في محافظة السويداء. ويعرف الجميع، كما تقرّ إسرائيل نفسها، بأنها بنت شبكات من المتعاونين معها من المسلحين الذين قاتلوا النظام السابق في بعض مناطق درعا والقنيطرة والسويداء. كذلك يعرف الجميع عن العمليات الكثيرة التي قامت بها قوات الاحتلال ضد كوادر من حزب الله أو من السوريين العاملين معه في هذه المنطقة. وقد أغار العدوّ علناً على شقة في دمشق وقتل المقاوم سمير القنطار، على خلفية دوره في «تجنيد دروز الجولان» للعمل ضد قوات الاحتلال.

في مقابل إنجازات العدوّ السورية، كانت إيران تواجه مأزقاً جديداً. لم يكن الأمر مرتبطاً فقط بسقوط الرئيس الأسد، بل ما سبقه من خطوات قام بها النظام السابق عكست رغبة في التخفّف من أعباء محور المقاومة. وثمّة معطيات كثيرة تفيد بأن الإيرانيين لم يكونوا على وئام مع الأسد في السنة الأخيرة، وكانوا يعبّرون عن انزعاج من السلوك الروسي في سوريا، وتتهم طهران موسكو بالوقوف خلف الكثير من الخطوات التي سهّلت للعدوّ تنفيذ هجمات ضدّ أهداف إيرانية في سوريا.

وبدأت مشكلة إيران مع الأسد بدأت عندما قرر التخلي عن استراتيجية القوى الرديفة. ففي عام 2021، بدأ الرئيس السابق يتحدث عن إعادة تنظيم جيشه، وكانت أولى الخطوات العمل على دمج المجموعات العسكرية التي نشأت خلال سنوات المواجهة مع المعارضة، ضمن صفوف الجيش. كان للأسد تبريره المنطقي بأنه لا يرغب في وجود جيش رديف، رغم أن النقاش معه، من قبل إيران وحزب الله، ركّز على أن القوى الرديفة لم تقم لمجرد الحاجة إليها في المواجهات السابقة، ولا لإضعاف الجيش، بل لأن طبيعة تشكيلها وآليات عملها ونوعية تدريبها وشكل إدارتها والامتيازات التي تُقدّم الى أفرادها، تجعلها أكثر فعالية. كما أن هناك الكثير من الشباب السوري الذي لا يريد الانخراط في الخدمة الإلزامية في الجيش، وجد في «الوصفة» الإيرانية بقيام وحدات دفاع رديفة فرصة للعب دور، من دون التورط في العمل ضمن مؤسسات النظام.

رغم ذلك، لم يرد الأسد لهذا الأمر بأن يستمر. وكان القرار واضحاً لدى إيران وحزب الله بالاستجابة له، مع تعهد من إيران ومن الأمين العام السابق لحزب الله الشهيد السيد حسن نصر الله بعدم إعادة بناء هذه المجموعات من جديد. وهو ما حصل، إذ جرى دمج أكثر من 25 ألف مقاتل في صفوف الجيش السوري، وإخضاعهم للظروف نفسها التي يعيشها جنود الجيش، ما دفع بغالبيتهم الى ترك الجيش خلال شهور قليلة.
وزاد وضع الإيرانيين حراجة عندما باتوا يشعرون بأن الأسد يميل الى خيارات قد تقود الى صدام معهم. صحيح أنه أطلع إيران وحزب الله على كل اتصالاته مع الإمارات العربية المتحدة والسعودية ومصر وبقية دول الخليج العربي ومع أطراف أخرى في الإقليم، لكنه لم يكن صريحاً كفاية حول خطته اللاحقة. وكانت عناصر القلق تزيد في كل مرة يرفض فيها الأسد القيام بأيّ خطوات داخلية يمكن أن تخفّف الضغط العام. قد يعتقد البعض بأن إيران لم تكن ترغب في أن يصالح الأسد إردوغان، وقد يكون في هذا شيء من الصحة. لكنّ المؤكد أن المسؤولين الإيرانيين، وخصوصاً بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة في إيران، كانوا يميلون الى إقناع الأسد بالسير في صفقة تشمل تركيا وكل دول المنطقة، وأن يعمد الى عقد اتفاقات يقدّم خلالها تنازلات مقابل الحصول على دعم لإعادة بناء بلده. وفي الوقت نفسه، كانت إيران تحذّره دائماً من أن هؤلاء يريدون منك الابتعاد عن إيران، ولن يقدّموا لك أيّ بديل، سوى إيهامك بأنهم يوفرون الحماية لك.

بعد اندلاع معركة طوفان الأقصى، كانت إيران أول من استجاب لنصيحة الشهيد السيد نصر الله بإبقاء سوريا خارج جبهات الإسناد. وهو رفض كل الاقتراحات باستخدام الأراضي السورية لقصف كيان العدوّ، وكان يحذّر من أن إسرائيل ستستغل أيّ عملية للقيام بموجة قصف تدمّر كل مقدرات الجيش السوري. وكان موقفه يستند الى أن روسيا لم تمنح النظام السوري الضمانات الكافية بعدم تعرّض إسرائيل لقواته، ولا منظومات الدفاع الجوية التي تسمح للجيش السوري بالتصدّي لأيّ عدوان إسرائيلي واسع.

حصل الكثير من التطورات خلال الأشهر القليلة الماضية، وفيها الكثير من الوقائع التي يفترض بالإيرانيين الحديث عنها، لكن ما لا يمكن تجاوزه يتعلق بالمرحلة الأخيرة، عندما طلب الأسد خفض عدد المستشارين الإيرانيين في سوريا في إطار تفاعله مع المبادرة الإماراتية – السعودية، فيما كانت إيران تحذّره من وجود خطط شبه جاهزة لدى الفصائل المسلحة للقيام بعمليات عسكرية واسعة ضدّ قواته، ليس في حلب فقط، بل في مناطق أخرى. وقد زوّد الإيرانيون النظام السوري السابق بمعلومات استخباراتية موسّعة عن أمور حصلت فعلياً.

عندما بدأت المعركة، حاولت إيران - لمرة أخيرة - إنقاذ الأسد. لكنها كانت تعرف أن الأمر لا يمكن أن يتم بالطريقة السابقة، بل من خلال عملية سياسية حاولت طهران تحقيق اختراق فيها، رغم أنها كانت ولا تزال على ثقة بأن الجانب التركي لم يكن ليقبل بأيّ حل وسط، وأنه قرر خوض المعركة حتى النهاية بالتعاون مع جهات أخرى؛ على رأسها الولايات المتحدة. لذلك، سعت إيران في الأسابيع الأخيرة الى محاولة حصر الأضرار، ولا سيّما أنها تراقب بحذر شديد ما يجري في غزة وما جرى في لبنان وما هو مخطّط له في العراق وضدّها مباشرة. وكل ما فعله الإيرانيون منذ لحظة سقوط الأسد هو التواصل مع تركيا وقطر، وإبلاغهما بأن مصالح إيران في سوريا لا تتصل بوجود نظام الأسد، وأن على الحكم الجديد في دمشق إدراك هذا الأمر، تمهيداً لأيّ نقاش حول مستقبل العلاقة بين البلدين.

يبقى أن الطرف الثالث المعنيّ بما يحصل في سوريا هو روسيا، الدولة التي أقنعها الإيرانيون سابقاً بأن مصالحها الاستراتيجية تقتضي أن تتصرّف بطريقة مختلفة في منطقة غرب آسيا، كما يطلق الإيرانيون على الشرق الأوسط. ولم تكن موسكو تحتاج الى شروحات أكثر عن الحاجة إلى الوجود المباشر في المنطقة، بعدما أقصتها الولايات المتحدة يوم غزت العراق، وما فعله الأوروبيون بها في شمال إفريقيا. وعندما قرر الرئيس فلاديمير بوتين إطلاق عملية الدعم الهائلة للنظام في سوريا عام 2015، كانت موسكو تخطو خطوة أولى في طريق المواجهة المباشرة مع النفوذ الأميركي في المنطقة. 

لكن روسيا ليست جمعية خيرية، وهي تريد المقابل مباشرة، وما حصلت عليه من قواعد في الساحل السوري لم يكن كافياً، وخصوصاً أن لها علاقاتها ومصالحها داخل سوريا وفي المنطقة أيضاً. فهي ليست في معركة مع إسرائيل، كما أنها طالبت الأسد مراراً بأن يوسّع الحكومة لضمّ معارضين، من بينهم من يقيم في روسيا نفسها. وكان المسؤولون الروس يعبّرون عن ضيقهم من عدم تجاوبه، حتى وصل الأمر بمسؤول روسي كبير الى القول: «لم نتمكن من إقناع الأسد حتى بالسماح لقدري جميل بالعودة الى دمشق»!

جاءت حرب أوكرانيا لتقلب الأمور رأساً على عقب. لم تفرض الحرب الجديدة انقلاباً في الخطط الروسية، لكنها فرضت حسابات جديدة، من بينها علاقات مختلفة مع تركيا، وتأثير إسرائيل في الحرب نفسها، والدور الأوروبي. وكانت روسيا تشعر على الدوام بأن ما يريده الأسد منها يتجاوز قدرتها من جهة، ولا يتطابق مع برنامج الدعم الذي اتفق عليه بوتين مع قائد قوة القدس الشهيد قاسم سليماني. وهو ما جعل الأسد يحاول بناء علاقات موازية داخل الحكم الروسي، سواء من خلال جنرالات أو من رجال أعمال، وخصوصاً أولئك الذين تفرض عليهم الولايات المتحدة عقوبات. وفي الوقت نفسه، أصابت سوسة الفساد الضباط الروس الذين خدموا في سوريا، وقد باع مهربون وتجار كميات كبيرة من السلاح الروسي الى مجموعات مسلحة في إدلب ومناطق أخرى، تم تسجيلها على أنها خسائر حربية. فيما كانت تقديرات القيادة العسكرية الروسية تتوالى عن تراجع كفاءات وقدرات الجيش السوري على المواجهة.

ويقول الروس أيضاً إنهم حذّروا الأسد من مشاريع لإسقاطه، وأشاروا الى وجود تعاون بين الفصائل المسلحة والسلطات الأوكرانية على تطوير سلاح المسيّرات والاستخبارات الجوية، كما أن جهات أوروبية دخلت باسم الأوكران الى قلب المعركة. لكنهم يشكون من أن الأسد لم يكن يستجيب لطلباتهم أيضاً، ويعبّرون عن اعتقادهم بأنه كان يراهن على حلول سياسية توفرها الإمارات العربية المتحدة على وجه التحديد.

اليوم، تقف روسيا عند الشاطئ. صحيح أن الحكم الجديد لا يرفع شعار طردها من سوريا. لكن الاستخبارات الروسية تعتقد بأن الأمر لن يطول حتى يخرج من داخل سوريا من يدعو الى الجهاد ضد الاحتلال الروسي، وبأن المسلحين السوريين يجدون في الوجود الروسي خطراً أكبر من الاحتلال الإسرائيلي. لذلك، تعتقد موسكو بأن الكلام مع الحكم الجديد سيكون مضيعة للوقت، وأن الأفضل والأكثر فعالية هو التوجّه مباشرة نحو الأتراك. ذلك أن موسكو، كما طهران وتل أبيب، تردّد ما قاله الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب بأن سوريا باتت اليوم تحت الوصاية التركية.
 

سورياأبو محمد الجولاني

إقرأ المزيد في: مقالات مختارة

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة

خبر عاجل