الانتخابات البلدية والاختيارية 2025

آراء وتحليلات

عودة الحرب في غزة.. بين الاحتلال المستدام والمقاومة
18/04/2025

عودة الحرب في غزة.. بين الاحتلال المستدام والمقاومة

محمد الأيوبي

في قلب الصراع الجاري على غزة، لا يمكن اختزال ما يحدث في مجرد عمليات عسكرية أو ردود أفعال متبادلة. المسألة، كما هي دائمًا، تتجاوز سطح الأحداث لتغوص عميقًا في بنية النظام السياسي والعسكري "الإسرائيلي"، وفي منطق القوة الغاشمة التي تحكم علاقة "إسرائيل" بالفلسطينيين منذ النكبة. لقد عادت الحرب، ولكنها لم تكن غائبة أصلًا، بل كانت في طور إعادة التشكيل والتكتيك، ضمن معادلة غير متكافئة، لكنها ليست خالية من مفاجآت الردّ الفلسطيني الذي يرفض التلاشي.

إخفاقات الاحتلال وتكتيكات القضم التدريجي

في السياق الراهن، يعمد الاحتلال "الإسرائيلي" إلى تبني إستراتيجية جديدة يُفترض أنها أكثر نجاعة في تفكيك بنية المقاومة. وهي تقوم على التوغلات البرية الواسعة، وتثبيت نقاط تمركز عسكرية في مناطق تقليدية داخل قطاع غزة، بعد أن فشل خلال الأشهر الـ18 الماضية في "تحقيق نصر حاسم" على حركة "حماس" و"كتائب القسام". ومع كل يوم تمضي فيه الحرب، يتضح أن السردية "الإسرائيلية" عن الحسم العسكري تتآكل، وأن غزة لم تكن، ولن تكون، هدفًا يمكن احتلاله على الطريقة التقليدية.

العمليات العسكرية الحالية ليست فقط تعبيرًا عن قوة نارية مفرطة، بل هي انعكاس للتخبط السياسي والعسكري داخل المنظومة الصهيونية. التركيز على مناطق مثل الشجاعية وجباليا وبيت لاهيا، والتقدم نحو رفح، كلها ليست فقط تحركات عسكرية؛ بل رسائل سياسية بامتياز. "إسرائيل" تعيد رسم خريطة غزة بالقوة، معتمدة على سياسة "القضم المتدرج" التي تتوخى تقسيم القطاع، وعزل المدنيين عن المقاومة، ما يُعيد سيناريو العام 1948 إلى الواجهة: التفريغ الديمغرافي وتفكيك البنية الاجتماعية شرطًا للهيمنة الجغرافية.

المقاومة ترد وتعيد تشكيل المعادلة

لكن غزة لا تستسلم. والرشقات الصاروخية التي استهدفت أسدود و"تل أبيب" لم تكن استعراض قوة، بقدر ما كانت بيانًا عمليًا بأن المقاومة ما تزال تمتلك أوراقًا فاعلة، وبأن الداخل "الإسرائيلي" ليس بمنأى عن التأثير المباشر لهذه الحرب؛ فالمعادلة التي تحاول "إسرائيل" فرضها: "أرض بلا مقاومة"، تواجهها المقاومة بمعادلة مضادة: "لا أمن للاحتلال طالما أن غزة تنزف".

من ناحية أخر؛، التوغل "الإسرائيلي" يتخذ منحى غير مسبوق؛ فبعدما كان النمط المعتاد يقوم على "الدخول والاشتباك ثم الانسحاب"، بات الاحتلال اليوم يعتمد سياسة "الدخول والبقاء"، وهو ما يوحي بتحول في عقيدة الاحتلال من الضربات التكتيكية إلى محاولة فرض واقع احتلالي جديد في غزة. هذا الواقع الجديد يُبنى من خلال إنشاء "منطقة عازلة" بعمق يزيد على كيلومتر في أكثر من محور، وربطها بخطوط إمداد عسكرية من جهة، وبأوامر إخلاء قسرية من جهة أخرى. وهذا ما يعيد للأذهان نماذج السيطرة الاستعمارية التي تقوم على إعادة تشكيل الأرض والسكان وفقًا لمنطق العنف والاقتلاع.

الأنفاق ومناطق القتل.. المقاومة تقاتل بشروطها

غير أن كل هذه الإجراءات تُواجه بمقاومة محسوبة. الفصائل الفلسطينية لا تدخل المواجهة حيثما يريد الاحتلال، بل حيثما تملك هي شروط الاشتباك المناسبة. وبهذا المنطق، تتشكل "مناطق قتل" تُستدرج إليها القوات "الإسرائيلية"، لتُفاجأ بكمائن وهجمات من خلف الأرض ومن باطنها، عبر شبكة أنفاق أعادت المقاومة ترميمها خلال وقف إطلاق النار. وهذه الأنفاق ليست فقط وسائل تنقل أو هجوم، هي التعبير الأقصى عن فن البقاء الفلسطيني، في وجه آلة قتل مدججة بكل أنواع الدعم السياسي والعسكري الغربي.

الكارثة الإنسانية والتواطؤ الدولي

المدهش في هذا الصراع، أن المقاومة ما تزال قادرة على إدارة حرب استنزاف طويلة، في وقت يعيش فيه القطاع أحد أسوأ الكوارث الإنسانية في العصر الحديث. الموت القادم من السماء لا يقتصر على القنابل، هو يشمل أيضًا الجوع والمرض والظمأ. أكثر من 50 ألف شهيد و115 ألف مصاب منذ بدء العدوان، وأطفال يموتون جوعًا في صمت، فيما آلاف الشاحنات المحملة بالمساعدات متكدسة على أبواب معبر رفح المغلق بقرار "إسرائيلي" ورضوخ دولي.

الحديث عن "المجتمع الدولي"، هنا، يفقد معناه. فأين هو هذا المجتمع الذي يرى الصور القادمة من غزة، من المجازر التي تُرتكب تحت سمعه وبصره، ويكتفي بإصدار بيانات الشجب أو التمنيات؟ بل إن الدعم الأمريكي السافر والتواطؤ الأوروبي الصامت لا يدعان مجالًا للشك: ما يحدث في غزة هو إبادة جارية، تُدار بتواطؤ دولي كامل، وبغطاء سياسي مكشوف.

غزة لا تنكسر.. معركة صمود لا تنتهي

مع ذلك؛ إن ما يُرعب الاحتلال ليس فقط صواريخ المقاومة أو قدرات الأنفاق، بل قدرة غزة على البقاء ذاتها. الاحتلال لا يريد إنهاء المقاومة فحسب، بل يريد أيضًا كسر الروح الجمعية لشعب قرر أن يقاوم منذ 75 عامًا. لكن هذه الروح هي ما يُفشل كل الحسابات العسكرية "الإسرائيلية". ولهذا، المعركة ليست فقط بين دبابة وقذيفة، بل بين سرديتين: واحدة تؤمن بالهيمنة الدائمة، وأخرى تُراهن على الذاكرة والحق والصمود أدواتٍ للبقاء.

أما من الناحية الإستراتيجية، "إسرائيل" تجد نفسها، اليوم، في مأزق مركب. استمرار الحرب لا يحقق لها نصرًا، بل يراكم الخسائر المادية والبشرية ويزيد التوتر الداخلي. وفي الوقت ذاته، التراجع أو القبول بتسوية سياسية سيُقرأ على أنه هزيمة سياسية وعسكرية. هذا ما يجعل من الوضع الحالي لحظة استعصاء: فلا انتصار ممكن، ولا انسحاب بلا كلفة.

السيناريوهات المحتملة متعددة 

وهي تتمثل بتصعيد شامل وعمليات برية متقطعة، أو استدراج نحو مسار تفاوضي جديد. لكن كل هذه السيناريوهات تظل مرهونة بعاملين اثنين: قدرة المقاومة على الصمود ميدانيًا، وضغط الشارع "الإسرائيلي" الذي بدأ يتململ من استمرار الحرب بلا أفق واضح. ومع ازدياد الحديث عن الجبهة الشمالية والتهديدات الإقليمية، يصبح خطر تمدد الصراع خارج غزة احتمالًا واقعيًا، لا سيما في حال استمرت "إسرائيل" في استهداف المدنيين في جزء من عقيدتها القتالية.

في النهاية؛ إن ما يجري في غزة ليس حربًا بالمعنى الكلاسيكي، بل هو شكل من أشكال إعادة تشكيل منطقة غرب آسيا (الشرق الأوسط) على أنقاض الكرامة الفلسطينية. ومع ذلك؛ غزة تُصرّ على البقاء، لا لكونها أرضًا مجردة، بل رمزًا للمقاومة في زمن التواطؤ الشامل. 

لقد أُريد لغزة أن تسقط، لكنها صمدت، ليس فقط أمام الجيوش والطائرات، بل أمام خذلان العالم بأسره. وإن كان في التاريخ دروس، فإنّ أعظمها، اليوم، يُكتب في شوارع غزة وعلى أطلال بيوتها، حيث يموت الأطفال بصمت، لكنهم يصرخون في وجه العالم: نحن هنا، ولن نختفي.

الكيان الصهيونيغزةالمقاومةجيش العدو الاسرائيلي

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة
خروقات العدوّ متواصلة وارتقاء شهيدين في بعورته والحنية
خروقات العدوّ متواصلة وارتقاء شهيدين في بعورته والحنية
الإبادة في غزة مستمرة.. عشرات الشهداء والمصابين في غارات "إسرائيلية" عنيفة
الإبادة في غزة مستمرة.. عشرات الشهداء والمصابين في غارات "إسرائيلية" عنيفة
الجماعة الإسلامية تنعى القيادي عطوي: اغتالته يد الغدر الصهيونية في غارة حاقدة
الجماعة الإسلامية تنعى القيادي عطوي: اغتالته يد الغدر الصهيونية في غارة حاقدة
إفادة رئيس الشاباك ترسم صورة مخيفة عن نتنياهو
إفادة رئيس الشاباك ترسم صورة مخيفة عن نتنياهو
كاتب صهيوني: نتنياهو أصبح سيد العار وليس الأمن
كاتب صهيوني: نتنياهو أصبح سيد العار وليس الأمن
الإعلام الحكومي في غزة: الوضع الإنساني في القطاع يدخل مرحلة الانهيار الكامل
الإعلام الحكومي في غزة: الوضع الإنساني في القطاع يدخل مرحلة الانهيار الكامل
آثار نفسية وجسدية يعانيها الأسرى الفلسطينيون: تعذيب من لحظة الاعتقال وحتى الإفراج
آثار نفسية وجسدية يعانيها الأسرى الفلسطينيون: تعذيب من لحظة الاعتقال وحتى الإفراج
مستوطنو غلاف غزة لنتنياهو: تعبنا من حرب مستمرّة لا تحقّق أهدافها
مستوطنو غلاف غزة لنتنياهو: تعبنا من حرب مستمرّة لا تحقّق أهدافها
فيديو| القسام تستهدف آليات الاحتلال المتوغلة على تخوم حي التفاح شرق مدينة غزة
فيديو| القسام تستهدف آليات الاحتلال المتوغلة على تخوم حي التفاح شرق مدينة غزة
حديث الإستراتيجية الدفاعية بين المماحكة والجدّ
حديث الإستراتيجية الدفاعية بين المماحكة والجدّ
"نزع سلاح المقاومة"
"نزع سلاح المقاومة"
فياض من الخيام: العدوّ واهم إذا ظنّ أن ضغوطاته ستجبر المقاومة على التراجع
فياض من الخيام: العدوّ واهم إذا ظنّ أن ضغوطاته ستجبر المقاومة على التراجع
بعد جولتها الثانية.. المفاوضات الإيرانية الأميركية تكشف ثبات المقاومة
بعد جولتها الثانية.. المفاوضات الإيرانية الأميركية تكشف ثبات المقاومة
فيديو| رغم الغارات.. جنوبيون يتابعون حياتهم: لن نُرهب
فيديو| رغم الغارات.. جنوبيون يتابعون حياتهم: لن نُرهب
تحرّكات في سلاح الجو "الإسرائيلي" لاستكمال خطوة الاعتراض على مواصلة الحرب
تحرّكات في سلاح الجو "الإسرائيلي" لاستكمال خطوة الاعتراض على مواصلة الحرب
الحاج وفيق صفا: لا توجد قوة تستطيع نزع السلاح.. والإستراتيجية الدفاعية تبدأ بتسليح الجيش 
الحاج وفيق صفا: لا توجد قوة تستطيع نزع السلاح.. والإستراتيجية الدفاعية تبدأ بتسليح الجيش 
رغم التهديدات "الإسرائيلية" .. الجنوبية ليلى طباجة تفتح فرنًا للمناقيش
رغم التهديدات "الإسرائيلية" .. الجنوبية ليلى طباجة تفتح فرنًا للمناقيش
أخطاء تكتيكية جسيمة‎ يواصل ارتكابها رئيس الأركان "الإسرائيلي"
أخطاء تكتيكية جسيمة‎ يواصل ارتكابها رئيس الأركان "الإسرائيلي"