آراء وتحليلات
"اليمين اللبناني" يعوم على رؤى ترامب
فتح الإعلان عن "المؤتمر التأسيسي الأول للمحافظين الجدد - لبنان" الذي عُقد في فندق البستان ببيت مري الجدل مجدداً حول الطروحات الانعزالية والانغلاقية التي تظهر بين وقت وآخر، في ضوء المشاكل الصعبة التي يرزح تحتها الكيان اللبناني بعد مئة عام من تأسيس "لبنان الكبير".
وبدا البيان الذي صدر باسم المجتمعين مرتجَلاً إلى حد بعيد، من دون أن يعني أنه لا يستند إلى حيثية فكرية ومجتمعية تعتمل في نفوس بعض المسيحيين الذين هالتهم المتغيرات السياسية بعد اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية وكرّس نوعاً من المساواة في المواقع الأساسية بين المسيحيين والمسلمين، وبالتالي أفقد المسيحيين وخاصة الموارنة الدور القيادي الذي أنيط بهم في فترة ما بعد استقلال لبنان. كما بدا البيان معدّاً مسبقاً من قبل الجهة المنظّمة بدليل أن عدداً ممن حضروا الاجتماع تبرؤوا من البيان الختامي واعتبروا انه لا يعكس النقاشات التي تمت في الجلسة التي امتدت على مدى ساعتين ونصف. إضافة إلى ذلك، عكس البيان الختامي انبهاراً بالرؤى "الترامبية" واستشرف منها مستقبلاً واعداً للمنطقة.
المصطلح
يثير استخدام مصطلح "المحافظين الجدد" و"اليمين اللبناني" علامات استفهام حول العمق الفكري والعقائدي للقائمين على إنتاجه، وعمّا إذا كان يعرق من الواقع اللبناني بخصوصياته المختلفة أو أنه يستجلب رؤى وتجاربَ من الخارج، لا سيما أن البيان الختامي للاجتماع استحضر بشكل متكرر تجارب اليمين في الولايات المتحدة وأوروبا إلى حد الدعوة إلى "إقامة تحالف دولي يجمع أبناء وبنات اليمين اللبناني إلى جانب رفاقهم من سائر شعوب العالم"، مؤكداً على "ضرورة التواصل مع اليمين الأميركي الذي يحمل لواءه الحزب الجمهوري ولا سيما تيار المحافظين الجدد، كما مع سائر أحزاب اليمين في القارة الأميركية"، وكذلك على "ضرورة الاتصال مع أحزاب اليمين الأوروبي" لاسيما في المجر وإيطاليا والنمسا وألمانيا وفرنسا.
ولا يحتاج المرء إلى كثير عناء للاستنتاج بأن القائمين على هذه المبادرة يستوحون من مجمل التطورات في الساحة الدولية، وتحديداً سياسات الولايات المتحدة الاميركية التي يقودها دونالد ترامب، دفعاً كبيراً لأفكارهم وأحلامهم في تحقيق واقع يناسب رؤاهم الخاصة. لكنهم يتجاهلون الاختلاف الكبير بين ما تخطط له الإدارة الأميركية والواقع المحلي في لبنان الذي استعصى على متغيرات خارجية متتالية. وإذا كان لقاء بيت مري يستشفّ إمكانات نجاح لهذه الأفكار في الواقع اللبناني الحالي، فهو يخاطر بأخذ الخطاب بعيداً في غمار الاشتباك الطائفي الحاصل، بالنظر إلى العديد من العبارات الواردة في بيانه الختامي.
ملاحظات أساسية
بدايةً، لا يمكن الجزم بحجم التمثيل العام للمجتمعين في بيت مري، ولا بمدى تعبير البيان الختامي للإجتماع عن إرادة المشاركين فيه، بالنظر الى ردود أفعال بعضهم في أعقاب نشره. ومن الواضح أن الجهة الداعية، وهو الأمين العام لـ "المؤتمر الدائم للفدرالية" ألفرد رياشي، تركت بصمتها الخاصة على البيان. لكن مع ذلك يمكن الافتراض أن اجتماع "اليمين اللبناني" أو "المحافظين الجدد" في لبنان يرتبط بشكل أو آخر بعجلة التطورات في الغرب، وتحديداً نموّ نفوذ اليمين الأميركي والأوروبي ووصوله إلى الحكم في دول عدة.
يمكن التوقف عند نقاط عدة في البيان الختامي:
أولاً، يحرص البيان على تضخيم الفجوة بين الطوائف اللبنانية، وتحديداً بين المسيحيين والمسلمين، ويذهب الى تبنّي "الخيار الفدرالي كخيار سياسي أصيل لمسيحيي لبنان"، معلناً باسم المجتمعين "رفضهم التام ومحاربتهم الحازمة لكل أشكال الذمّية السياسية المفروضة على المسيحيين.. عبر القبول بالتبعية والمحاباة تجاه الآخرين، على حساب التمسك بهوية الشعب المسيحي وتطلعاته". ويتضح من خلال هذا المنحى الخطابي مدى التوتر في مقاربة الأزمة التي يرزح الكيان اللبناني تحتها. ومع أنه يعلن دعمه لرئيس الجمهورية العماد جوزاف عون ويدعوه "بشكل مباشر لقيادة المرحلة الانتقالية وصولاً إلى تحقيق نظام سياسي اتحادي - فدرالي مبني على أساس الحياد والحكم الجماعي؛ وذلك في سبيل بناء دولة تحترم الإنسان"، فهو يريد أن يتحقق ذلك "بعيداً عن مفاعيل اتفاق الطائف المخالف للشرائع الدولية..."! ويبلغ التوتر مداه بالإعلان أن "مفاعيل اتفاق الطائف باتت تشكل خطراً وجودياً على مسيحيي لبنان مما قد تستتبع زوالهم عن وجه التاريخ". ويوضح تناول اتفاق الطائف كمصدر خطر على المسيحيين أن القائمين على الاجتماع ربما يعكسون رأياً متطرفاً لا يتفق مع مجمل الجو المسيحي العام الذي يتعامل مع الطائف كإطار دستوري قائم ومعترف به، وأن المآخذ عليه تتناول طريقة تطبيقه، وقد تصل إلى المطالبة بتعديلات غير جوهرية.
ولم يقتصر توجيه سهام بيان بيت مري على اتفاق الطائف، بل تعدّاه إلى فتح "مشكل" مع طوائف وفئات أخرى مرة بالحديث عن "سيطرة السنية السياسية في مرحلة سابقة"، ومرة أخرى بالحديث عن "احتلال داخلي من قبل حزب الله"، وطوراً ثالثاً بالتخويف من "اليسار العالمي بتسمياته العدة وأشكاله المختلفة التي ظهرت مؤخراً على الساحة السياسية في لبنان، في محاولة لمصادرة القرار السياسي للمسيحيين والقضاء على تاريخهم ووجدانهم وهويتهم".
يُنظر على نطاق معين إلى هذه اللغة بالغة الحدة على أنها بمنزلة إعادة إنتاج للفكر الذي قاد إلى الحرب الأهلية من خلال التقوقع في إطار الهوية الطائفية الخاصة. فالبيان لا يؤسّس لحل، بل لمشكلة كبيرة خاصةً حين ينسف الإطار الدستوري القائم بوصفه خطراً على طائفة لبنانية بدون أن يوضح ما هي مشكلة اتفاق الطائف (لرياشي موقف سابق يعتبر اتفاق الطائف "مجزرة إبادة جماعية ثقافية" بحق المسيحيين). وبدلاً من تقديم مراجعة مبنية على حقائق يسلّم بها جميع اللبنانيين والبحث في الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أنتجت فشل النظام السياسي، يهرب إلى إنتاج سردية هوياتية ترتكز على تعميم الخوف والرغبة في الانغلاق على الآخر. ومن الواضح أن شعارات "الهوية" و"الخصوصية" و"القيم" تصادر التفكير في أي خيارات وبدائل أخرى وتؤسّس لمواجهة عوضاً عن "الحوار بين الشعوب ذات الهوية الدينية"، وفق مطلب اجتماع بيت مري. كما أن هذا الخطاب لا يبني مشتركات مع "الشعوب" الأخرى، بل يؤسس حدوداً فاصلة تقوم على الهوية المائزة.
وهنا، تأتي الدعوة إلى الفدرالية وسط مخاض داخلي لبناني لتجعل من الحل المنشود (الفدرلة) مشروعاً إشكالياً بامتياز.
ثانياً، يعلن البيان الختامي للاجتماع الانضمام إلى معسكر اليمين الأميركي والأوروبي، في وقت يدعو إلى الحياد في لبنان ! ويشير إلى أن المجتمعين "توافقوا على رفع عريضة للمجتمع الدولي، يعلنون فيها تأييدهم لخطة الولايات المتحدة الأميركية لإحلال السلام بين دول المنطقة وإنهاء الحروب". وهنا يُطرح السؤال بداهةً: هل يصبّ المشروع الأميركي (الذي يخوض الآن الحروب والتهجير الجماعي باسم السلام) في مصلحة لبنان والمسيحيين؟ ماذا لو تضمّن هذا المشروع اقتطاع جزء من لبنان لمصلحة "إسرائيل"، بما أن الرئيس الأميركي يتحدث عن صغر مساحة "إسرائيل" وضرورة توسيعها جغرافياً؟ وماذا لو تضمّن المشروع الأميركي أيضاً تهجير قسم من الفلسطينيين إلى لبنان، أسوة بما يطلبه من الأردن ومصر؟ وهل صحيح أن اليمين الأميركي يأخذ مصالح لبنان والمسيحيين في الاعتبار أم ينظر إلى مصالح "إسرائيل" أولاً؟.
يُعدّ الاستنجاد بالخارج على الداخل لتقديم صيغة طائفية جديدة مدموغة بالحل الحصري والوحيد والنهائي لأزمة لبنان، محاولة لاقتباس تجربة اليمين الأوروبي والأميركي، في حين أن تلك التجربة لم يُكتب لها النجاح بعد، بل إنها تخلق ظروفاً مثالية لإعادة إنتاج دكتاتوريات كتلك التي سبقت الحرب العالمية الثانية. وما نراه من تقويض المؤسسات في الولايات المتحدة لحساب رؤية فردانية للعالم ليس سوى تعميق لأزمة النظام الأميركي الاقتصادية والهوياتية سرعان ما سيبين فشلها بسبب عدم قدرتها على احتواء الخلافات الداخلية.
ثالثاً، ثمة انتقائية في المطالب التي تقدّم بها بيان اجتماع بيت مري؛ فهو يدعو مثلاً إلى إعادة النظر بقانون الجنسية وتطبيق المساواة بين الرجل والمرأة ليس لناحية منح الجنسية، وإنما لناحية منع منح الجنسية عبر الزواج برعايا دول الجوار والمحيط وسائر الدول المقرونة بمشاريع التحول "الديموغرافي" خارج أراضيها. ويبدو هذا البند مصمَّماً على قياس المطالبين به، كأن القانون موجود لخدمة ما يطلبه فريق واحد وليس لخدمة الجميع. أيضاً، يدعو إلى "رفض خطاب الكراهية وأي شكل من أشكال قمع إعلان الهوية الجماعية المسيحية، ورفض أي عمل من أعمال معاداة الغرب الذي تحركه غايات العنصرية الدينية أو "الإيديولوجيا" اليسارية، ومجابهة الإسلام السياسي المتطرف والحركات الجهادية وتفريقها عن الإسلام كدين سماوي كريم يشرف المنتسبين إليه"، وهذه الدعوة تطرح عناوين فضفاضة تكرس قمع أي توجهات أو آراء قد تصنَّف معاداة للغرب أو "إيديولوجيا" يسارية أو معتقدات سياسية إسلامية، على غرار ما يفعله الترامبيون في الولايات المتحدة في مواجهة أي موقف أو تحرك مناهض لسياسات رئسهم في الجامعات وغيرها. وكان يمكن للبيان أن يكتفي بالدعوة لمنع الإساءة إلى الأديان ومنع الحركات العنصرية من أي جهة كانت.
ختاماً، عكَسَ بيان اجتماع بيت مري رؤية أحادية لواقع معقّد، تميل إلى اختزال مشاكله بوصفةٍ تكرس الخوف من الآخر المختلف دينياً بدعوى الحفاظ على الهوية، وتعوم على توجهات انعزالية وصِدامية في السياسة الأميركية تثير مشاكل وهواجس حتى في الولايات المتحدة وأوروبا، فضلاً عن بقية العالم. وهو أقرب إلى كسل فكري لم ينجح في توصيف المشكلة، ولم ينجح في توفير قواسم مشتركة مقبولة مع الطوائف الأخرى. بل ربما يضيف تباعداً وتأزيماً في النظرة إلى الواقع الراهن. وعليه، قد يكون "المحافظون الجدد في لبنان" مجرّد نسخة منقحة باهتة وأكثر تطرفاً من صيغة "الجبهة اللبنانية" التي قادت البلد إلى صدام وحرب أهلية مدمّرة دفع المسيحيون ثمنها غالياً، إلى جانب المسلمين.
لبنانالولايات المتحدة الأميركيةدونالد ترامبالطائف
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/03/2025
رفع رايات الاستسلام أولى أم ستر البلايا؟
28/03/2025
العراق وفلسطين ويوم القدس العالمي
27/03/2025
يوم القدس ووفاء جبهات المقاومة بالعهد
27/03/2025
هكذا يحيي اليمنيون يوم القدس العالمي
التغطية الإخبارية
فلسطين المحتلة| شهيد وعدد من الإصابات في غارة صهيونية قرب مدرسة جحا شرق خان يونس
فلسطين المحتلة| إصابة مواطنة برصاص قوات الاحتلال وسط مدينة رفح جنوبي قطاع غزة
فلسطين المحتلة| اندلاع مواجهات بين الشبان وقوات الاحتلال في بلدة جبع جنوب جنين
إعلام العدوّ: انفجار عبوة ناسفة بدبابة "إسرائيلية" قرب خان يونس جنوبي قطاع غزة
إعلام العدوّ: عدد جثث المخطوفين في غزة مرشح للارتفاع بازدياد حدة العملية العسكرية
مقالات مرتبطة

فيديو | ضاحية العز والكرامة على العهد

صمود يرعب العدو.. أبناء الضاحية: باقون ولن نتراجع

فيديو| يوم القدس.. إحياءات في عدّة دول دعمًا لفلسطين والقدس الشريف

سلسلة صباحيات قرآنية في البقاع بمشاركة 1504 طلاب وطالبات

حزب الله أحيا يوم القدس في مجمع البحار في سبلين

زيلينسكي: أميركا لن تقدّم لنا أي شيء مجانًا

رسميًا.. إدارة ترامب تحلّ الوكالة الأميركية للتنمية الدولية "USAID"

الرئيس الفنزويلي: قواعد منظمة التجارة العالمية مصابة بجرح قاتل

فيديو | العدوان الأميركي على اليمن

عراقتشي: بعثنا ردنا على رسالة ترامب عن طريق سلطنة عمان

هل ينجح ترامب في فصل روسيا عن الصين؟

بوتين: خطط الولايات المتحدة للسيطرة على غرينلاند "جدّية وذات جذور تاريخية"

لبنان جديد ينتظره شعبه على أمل أن يتحقق

الطائف.. آخر أوراق السعودية

ماذا يجب أن نعدّل في اتفاق الطائف؟

مهلة تأليف الحكومة: نقص تشريعي أم إرادة سياسية؟
